فصل: تفسير الآيات (145- 148):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (145- 148):

{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)}
ولما انقضى ما أنسه سبحانه به لفت الكلام- في الإخبار لنا عن عظيم ما آتاه- لي مظهر العظمة، فقال مفصلاً لتلك الرسالة ومبيناً بعض ما كان من الكلام {وكتبنا} أي بعظمتنا {له في الألواح} عرفها لعظمتها تنبيهاً على أنها لجلالة ما اختصت به كأنها المختصة بهذا الاسم، وأعظم من هذا جعل قلب النبي الأمي لوحاً قابلاً لما يلقى إليه جامعاً لعلوم الأولين والآخرين {من كل شيء} أي يحتاجه بنو إسرائيل، وذلك هو العشر الآيات التي نسبتها إلى التوارة نسبة الفاتحة إلى القران، ففيها أصوال الدين وأصول الأحكام والتذكير بالنعم والأمر بالزهد والورع ولزوم محاسن الأعمال والبعد عن مساويها، ولذا قال مبدلاً: {موعظة وتفصيلاً} أي على وجازتها بما كانت سبباً {لكل شيء} أي لأنها- مع كونها أمهات وجوامع- مفصلة ترجع إليها بحور العلم وتنشق منها ينابيعها.
ولما كان هذا هكذا، تسبب عنه حتماً قوله تعالى التفاتاً إلى خطاب موسى عليه السلام بخطاب التأنيس إشارة إلى أن التزام التكاليف صعب: {فخذها} أي الألواح {بقوة} أي بجد وعزيمة في العلم والعمل {وأمر قومك} أي الأقوياء على محاولة ما يراد {يأخذوا بأحسنها} كأنه سبحانه أطلق لموسى عليه السلام الأخذ بكل ما فيها لما عنده من الملكة الحاجزة له عن شيء من المجاوزة، ولذلك قال له {بقوة} وقيدهم بالأحسن ليكون الحسن جداً مانعاً لهم من الوصول إلى القبيح، وذلك كالاقتصاص والعفو والانتصار والصبر.
ولما كان كأنه قيل: وهل يترك الأحسن أحد؟ فقيل: نعم، الفاسق يتركه، بل ويتجاوز الحسن إلى القبيح، بل وإلى أقبح القبيح، ومن تركه أهلكته وإن جل آله وعظمت جنوده وأمواله، قال كالتعليل لذلك: {سأوريكم دار الفاسقين} أي الذين يخرجون عن أوامري إلى ما أنهاهم عنه فأنصركم عليهم وأمكنكم بفسقهم من رقابهم وأموالهم من الكنعانيين والحاثانيين وغيرهم من سكان الأراضي المقدسه لتعلموا أن من أغصبني وترك أمري أمكنت منه، وإنما ذكر الدار لئلا تغرهم منعتها إذا استقروا بها فيظنوا أن لا غالب لهم فيها بوعورة أرضها وشهوق جبالها وإحكام أسوارها، وإذا تأملت ما سيأتي في شرح هذه الآيات من التوراة لاح لك هذا المعنى، وكذا ما ذكر من التوراة عند قوله في المائدة {قل هو أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله} [المائدة: 60] وفي هذه الجملة المختصرة بشارة يإتمام الوعد بنصرتهم عليهم بطاعتهم ونذارة على تقدير معصيتهم، فكأنه قيل: إن أخذوا بالأحسن أريتهم دار الفاسقين، وأتممت عليهم النعمة ما دامو على الشكر، وإن لم يأخذوا أهلكتهم كما أهلك الفاسقين من بين أيديهم، فحذرهم لئلا يفعلوا أفعالهم إذا استقرت بهم الدار، وزالت عنهم الأكدار، ويؤيد كون المراد القدس لا مصر قراءة من قرأ: سأورثكم- من الإرث، لأنها هي المقصودة بإخراجهم من مصر وبعث موسى عليه السلام، ولا ينفي ذلك احتمال مصر أيضاً- والله أعلم.
ولما انقضى ذلك، كان كأنه قيل: وكيف يختار عاقل ذلك؟ فكيف بمن رأى الآيات وشاهد المعجزات؟ فقال: {سأصرف عن آياتي} أي المسموعة والمرئية على عظمتها بما أشارت إليه الإضافة بالصرف عن فهمها واتباعها والقدرة على الطعن فيها بما يؤثر في إبطالها {الذين يتكبرون} أي يطلبون الكبر بما ليس لهم ويعملون قواهم فيه {في الأرض} أي جنسها الذي أمرت بالتواضع فيه.
ولما كان من رفعه الله بصفة فاضلة فوضع نفسه موضعها ولم يهنها نظراً لما أنعم الله به عليه ومنحه إياه ربما سمى ذلك كبراً، وربما سمى طلبه لتلك الأخلاق التي توجب رفعته تكبراً، وليس كذلك وإن وافقه في الصورة، لمفارقته له في المعنى فإنه صيانة النفس عن الذل، وهو إنزال النفس دون منزلتها صنعة لا تواضعاً، والكبر رد الحق واحتقار الناس، ففي التقييد هنا إشارة خفية لإثبات العزة بالحق والوقوف على حد التواضع من غير انحراف إلى الصنعة وقوفاً على شرط العزم المنصوب على متن نار الكبر؛ قال الإمام السهروردي: ولا يؤيد في ذلك ويثبت عليه إلا أقدام العلماء الراسخين- قال تعالى احترازاً عنه ومدخلاً كل كبر خلا عن الحق الكامل: {بغير الحق} أي إنما يختار غير الأحسن من يختاره بقضائي الذي لا يرد وأمري العالي على أمر كل ذي جد فأزين لمن علمت خباثة عنصره ورداءة جوهره ما أريد حتى يرتكبوا كل قبيحة ويتركوا كل مليحة، فينصرفون عن الآيات ويعمون عن الدلالات الواضحات.
ولما أخبر بتكبرهم في الحال، عطف عليه فعلهم في المآل فقال: {وإن يروا كل آية} أي مرئية أو مسموعة {لا يؤمنوا بها} أي لتكبرهم عن الحق {وإن يروا سبيل} أي طريق {الرشد} أي الصلاح والصواب الذي هو أهل للسلوك {لا يتخذوه سبيلاً} أي فلا يسلكونه بقصد منهم ونظر وتعمد، بل إن سلكوه فعن غير قصد {وإن يروا سبيل الغي} أي الضلال {يتخذوه سبيلاً} أي بغاية الشهوة والتعمد والاعتمال لسلوكه.
ولما كان هذا محل عجب، أجاب من يسأل عنه بقوله: {ذلك} أي الصرف العظيم الذي زاد عن مطلق الصرف بالعمى عن الإيمان واتخاذ الرشاد {بأنهم} أي بسبب أنهم {كذبوا بآياتنا} أي على ما لها من العظمة {وكانوا عنها} أي خاصة جبلة وطبعاً {غافلين} أي كان دأبهم وديدنهم معاملتهم لها بالإعراض عنها حتى كأنها مغفول عنها فهم لذلك يصرون على ما يقع منهم.
ولما ذكر أحوال المتكبرين الذين أداهم كبرهم إلى التكذيب في الدنيا، ذكر أحوالهم في الآخرة فقال: {والذين} أي كذبوا بها والحال أن الذين {كذبوا بآياتنا} أي فلم يعتبروا عظمتها {ولقاء الآخرة} أي ولقائهم إياها أو لقائهم ما وعدوا به فيها، اللازم من التكذيب بالآيات الحامل التصديق بها على معالي الأخلاق {حبطت} أي فسدت فسقطت {أعمالهم} والآية من الاحتباك: إثبات الغفلة أولاً يدل على إرادتها ثانياً، واللقاء ثانياً يدل على إرادته أولاً.
ولما كان كأنه قيل: لم بطلت؟ قيل: {هل يجزون إلا ما} أي جزاء ما {كانوا يعملون} أي بإبطال أعمالهم وإن عملوا كل حسن سوى الإيمان بسبب أنهم أبطلوا الآيات والآخرة بتكذيبهم بها، أي عدوها باطلة، والجزاء من جنس العمل، والحاصل أنهم لما عموا عن الآيات لأنهم لم ينظروا فيها ولا انقادوا مع ما دلت عقولهم عليه من أمرها، بل سدوا باب الفكر فيها؛ زادهم الله عمى فختم على مداركهم، فصارت لاينتفع بها فصاروا لا يعون، وهذه الآيات أعظم زاجر عن التكبر، فإنها بينت أنه يوجب الكفر والإصرار عليه والوهن في جميع الأمور، ولما كان ذلك كله مما يتعجب الموفق من ارتكابه، أعقبه تعالى مبيناً ومصوراً ومحققاً لوقوعه ومقرراً قوله عطفاً على {فأتوا على قوم يعكفون} [الأعراف: 138] مبيناً لإسراعهم في الكفر: {واتخذ} أي بغاية الرغبة {قوم موسى} أي باتخاذ السامري ورضاهم، ولم يعتبروا شيئاً مما أتاهم به من تلك الآيات التي لم ير مثلها {من بعده} أي بعد إبطائه عنهم بالعشرة الأيام التي أتممنا بها الأربعين {من حليهم} أي التي كانت معهم من مالهم ومما استعاروه من القبط {عجلاً} ولما كان العجل اسماً لولد البقر، بين أنه إنما يشبه صورته فقط، فقال مبدلاً منه: {جسداً}.
ولما كان الإخبار بأنه جسد مفهماً لأنه خال مما يشبه الناشئ عن الروح، قال {له خوار} أي صوت كصوت البقر، والمعنى أنه لا أضل ولا أعمى من قوم كان معهم حلي أخذوه ممن كانوا يستعبدونهم ويؤذونهم وهم مع ذلك أكفر الكفرة فكان جديراً بالبغض لكونه من آثار الظالمين الأعداء فاعتقدوا انه بالصوغ صار إلهاً وبالغوا في حبه والعبودية له وهو جسد يرونه ويلمسونه، ونبيهم الذي هداهم الله به واصطفاه لكلامه يسأل رؤية الله فلا يصل إليها.
ولما لم يكن في الكلام نص باتخاذه إلهاً، دل على ذلك بالإنكار عليهم في قوله: {ألم يروا} أي الذين اتخذوا إلهاً {أنه لا يكلمهم} أي كما كلم الله موسى عليه السلام {ولا يهديهم سبيلاً} كما هداهم الله تعالى إلى سبيل النجاة، منها سلوكهم في البحر الذي كان سبباً لإهلاك عدوهم كما كان سبباً لنجاتهم؛ قال أبو حيان: سلب عنه هذين الوصفين دون باقي أوصاف الإلهية لأن انتقاء التكليم يستلزم انتفاء العلم، وانتفاء الهداية إلى سبيل يستلزم انتفاء القدرة، وانتفاء هذين الوصفين يستلزم انتفاء باقي الأوصاف.
ولما كان هذا أمراً عظيماً جداً مستبعد الوقوع ولاسيما من قوم نبيهم بينهم ولاسيما وقد أراهم من النعم والآيات ما ملأت أنواره الآفاق، كان جديراً بالتأكيد فقال تعالى: {اتخذوه} أي بغاية الجد والنشاط والشهوة {وكانوا} أي جلبة وطبعاً مع ما أثبت لهم من الأنوار {ظالمين} أي حالهم حال من يمشي في الظلام، أو أن المقصود أن الظلم وصف لهم لازم، فلا بدع إذا فعلوا أمثال ذلك.

.تفسير الآيات (149- 151):

{وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)}
ولما كان هذا في سياق {ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} فأنتج أن من كذب على هذه الصفة أهلك، فانتظر السامع الإخبار بتعجيل هلاكهم، أخبر بأنه منعهم من ذلك وحرسهم المبادرة بالتوبة، ولما اشتد من تشوف السامع إليه، قدمه على سببه وهو رجوع موسى عليه السلام إليهم وإنكاره عليهم، ولأن السياق في ذكر إسراعهم في الفسق لم يذكر قبول توبتهم كما في البقرة؛ ولما كان من المعلوم أنهم تبين لهم عن قرب سوء مرتكبهم لكون نبيهم فيهم، عبر بما أفهم أن التقدير: فسقط في إيديهم، وعطف عليه قوله سائقاً مساق ما هو معروف: {ولما سقط} أي سقطت أسنانهم {في أيديهم} بعضها ندماً سقوطاً كأنه بغير اختيار لما غلب فيه من الوجد والأسف الذي أزال تأملهم ولذلك بناه للمفعول {ورأوا أنهم قد ضلوا} أي عن الطريق الواضح {قالوا} توبة ورجوعاً إلى الله كما قال أبوهم آدم عليه السلام {لئن لم يرحمنا ربنا} أي الذي لم يقطع قط إحسانه عنا فكيف غضبه ويديم إحسانه {ويغفر لنا} أي يمحو ذنوبنا عيناً وأثراً لئلا ينتقم منا في المستقبل {لنكونن من الخاسرين} أي فينتقم من بذنوبنا.
ولما أخبر بالسبب في تأخير الانتقام عنهم مع مساواتهم لمن أوقعت بهم النقمة في موجب الانتقام، أخبر سبحانه بحال موسى عليه السلام معهم عند رجوعه إليهم من الغضب لله والتبكيت لمن خالفه مع ما اشتمل عليه من الرحمة والتواضع فقال: {ولما رجع موسى} أي من المناجاة {إلى قومه غضبان} أي في حال رجوعه لما أخبره الله تعالى عنهم من عبادة العجل {أسفاً} أي شديد الغضب والحزن {قال بئسما} أي خلافة خلافتكم التي {خلفتموني} أي قمتم مقامي وفعلتم مقامي وفعلتم خلفي.
ولما كان هذا ربما أوهم أنهم فعلوه من روائه وهو حاضر في طرف العسكر، قال: {من بعدي} أي حيث عبدتم غير الله أيها العبدة، وحيث لم تكفوهم أيها الموحدون بعد ذهابي إلى الجبل للمواعدة الإلهية وبعد ما سمعتم مني من التوحيد لله تعالى وإفراده عن خلقه بالعبادة ونفي الشركاء عنه، وقد رأيتم حين كففتكم وزجرتكم عن عبادة غيره حين قلتم {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} ومن حق الخلفاء أن يسيروا سيرة المستخلف ولا يخالفوه في شيء.
ولما كان قد أمرهم ان لا يحدثوا حدثاً حتى يعود إليهم، أنكر عليهم عدم انتظاره فقال: {أعجلتم} قال الصغاني في المجمع: سبقتم، وقال غيره: عجل عن الأمر- إذا تركه غير تام، ويضمن معنى سبق، فالمعنى: سابقين {أمر ربكم} أي ميعاد الذي ما زال محسناً إليكم، أي فعلتم هذا قبل بلوغ أمر الموعد الذي زاد فيه ربي وهو العشرة الأيام برجوعي إليكم إلى حده، فظننتم أني مت فغيرتم كما غيرت الأمم بعد موت أنبيائها، قال الإمام أبو عبد القزاز أيضاً: عجلتم: سبقتم، ومنه تقول: عجلت فلاناً سبقته، وأسنده ابن التياني إلى الأصمعي {وألقى الألواح} أي التي فيها التوراة غضباً لله وإرهاباً لقومه، ودل هذا على أن الغضب بلغ منه حداً لم يتمالك معه، وذلك في الله تعالى {وأخذ برأس أخيه} أي بشعره {يجره إليه} أي بناء على أنه قصر وإعلاماً لهم بأن الغضب من هذا الفعل قد بلغ منه مبلغاً يجل عن الوصف، لأنه اجتثاث للدين من أصله.
ولما كان هارون عليه السلام غير مقصر في نهيهم، أخذ في إعلام موسى عليه السلام بذلك مخصصاً الأم وإن كان شقيقه- تذكيراً له بالرحم الموجبه للعطف والرقة ولاسيما وهي مؤمنه وقد قاست فيه المخاوف، فاستأنف سبحانه الإخبار عن ذلك بقوله: {قال ابن أم} وحذف أداة النداء وياء الإضافة لما يقتضيه الحال من الإيجاز، وفتح الجمهور الميم تشبيهاً له بخمسة عشر وعلى حذف الألف المبدلة من ياء الإضافة، وكسر الميم ابن عامر وحمزه والكسائي وأبو بكر عن عاصم بتقدير حذف ياء الإضافة تخفيفاً {إن القوم} أي عبدة العجل الذين يعرف قيامهم في الأمور التي يريدونها {استضعفوني} أي عدوني ضعيفاً وأوجدوا ضعفي بإرهابهم لي {وكادوا يقتلونني} أي قاربوا ذلك لإنكاري ما فعلوه فسقط عني الوجوب.
ولما تسبب عن ذلك إطلاقه، خاف أن يمنعه الغضب من ثبات ذلك في ذهنه وتقرره في قلبه فقال: {فلا تشمت بي الأعداء} أي لا تسرهم بما تفعل بي فأكون ملوماً منهم ومنك؛ ولما استعطفه بالتذكير بالشماتة التي هي شماتة به أيضاً، أتبعه ضرراً يخصه فقال: {ولا تجعلني} أي بمؤاخذتك لي {مع القوم الظالمين} أي فتقطعن بعدّك لي معهم وجعلي في زمرتهم عمن أحبه من الصالحين، وتصلني بمن أبغضه من الفاسدين الذين فعلوا فعل من هو في الظلام، فوضعوا العبادة في غير موضعها من غير شبهة ولا لبس أصلاً.
ولما تبين له ما هو اللائق بمنصب أخيه الشريف من أنه لم يقصر في دعائهم إلى الله ولا ونى في نهيهم عن الضلال، ورأى أن ما ظهر من الغضب مرهب لقومه وازع لهم عما ارتكبوا، دعاء له ولنفسه مع الاعتراف بالعجز وأنه لا يسع أحداً إلا العفو، وساق سبحانه ذلك مساق الجواب لسؤال بقوله: {قال رب} أي أيها المحسن إليَّ {اغفر لي} أي ما حملني عليه الغضب لك من إيقاعي بأخي {ولأخي} أي في كونه لما يبلغ ما كنت أريده منه من جهادهم.
ولما دعا بمحو التقصير، أتبعه الإكرام فقال: {وأدخلنا} أي أنا وأخي وكل من انتظم معنا {في رحمتك} لتكون غامرة لنا محيطة بنا؛ ولما كان التقدير: فأنت خير الغافرين، عطف عليه {وأنت أرحم الراحمين} أي لأنك تنعم بما لا يحصره الجد ولا يحصيه العد من غير نفع يصل إليك ولا أذى يلحقك بفعل ذلك ولا تركه.